أتفهم تماماً أن يشن تنظيم الإخوان الماسونى هجوماً غادراً على كل مظاهر الاستفتاء على الدستور، بدءاً من التعامى المرضى عن الحشود التى خرجت للتصويت، وانتهاء بالنتيجة التى جاءت صادمة وساحقة لكل أعضاء وأنصار هذا التنظيم.. فمن الطبيعى جداً أن يكون «الإخوانى» كارهاً لكل خطوة من خطوات خريطة الطريق، وحاقداً، إلى حد الجنون، على هذا الشعب العظيم الذى ذهب إلى لجان الاستفتاء فرحاً مبتهجاً إلى حد الغناء والرقص والتلويح بصور الرموز الوطنية العظيمة وأعلام الوطن الذى استعدناه فى لحظة تاريخية فارقة، كان فيها الوطن قاب قوس واحد من الانهيار والتفكك والضياع.
نعم، كراهية الإخوان لكل مظاهر الاحتفال بعودة الوطن إلى الشعب طبيعية جداً لجحافل بشرية تربت على عبادة المرشد والإيمان الأعمى بأنه أهم من الوطن وأبقى من الشعب، ولكن غير الطبيعى أن أصادف أناساً يعتبرون أنفسهم «مثقفين» ويتصورون أن دور المثقف فى مجتمعه هو أن يضع نموذجاً لما ينبغى أن تكون عليه المجتمعات، وعلى المجتمع أن يعيد ترتيب نفسه ليتوافق مع هذا النموذج مهما كانت تفاهته.
آخر هذه التجليات الثقافية المتهافتة والمريضة ما سمعته من عدد من أصحاب «دكاكين» منظمات المجتمع المدنى، ومن عدد آخر من الإعلاميين، الذين عبروا عن «خوفهم» من نتائج الاستفتاء على الدستور؛ إذ ليس من المستحب أبداً -بالنسبة لهم- أن يقول 98٪ من المشاركين فى التصويت «نعم» للدستور، وكان من الأفضل سياسياً أن تأتى النتيجة 70٪ نعم و30٪ لا!!
والمذهل فى هذا التصور العجيب أن أصحابه لم ينتبهوا إلى أن الشعوب لا تتصرف وفقاً لتصورات نخبوية مسبقة، وأن وضع نموذج لما ينبغى أن تكون عليه نتيجة الاستفتاء هو مطلب ضمنى بتزوير النتائج لتتوافق مع النموذج الديمقراطى الذى وضعه الغرب فى أذهان هؤلاء «المثقفين» وطالبهم بترويجه والدفاع عنه لأغراض سياسية لا تريد خيراً لهذا البلد.
الأكثر إذهالاً فى حديث هؤلاء «المثقفين» هو أنهم أجمعوا على أن «الاستفتاء» لم يحدث به أى تزوير، وأن الإجراءات التى سبقت الاستفتاء لم تشُبها شائبة باستثناء الحشد الزائد على الحد للتصويت بـ«نعم».. ولكنهم لم يتوقفوا بكلمة واحدة أمام عمليات ترويع المواطنين وتهديدهم بالقتل والحرق إذا ذهبوا للتصويت على الدستور، وتعاموا قاصدين عن التلاعب الغادر الذى اقترفه تنظيم الإخوان الماسونى فى قاعدة بيانات الناخبين خلال وجودهم فى الحكم، وهو التلاعب الذى أدى إلى إرهاق ملايين المواطنين وحرمهم من الإدلاء بأصواتهم، وتغاضوا عن الوسائل الرخيصة التى لجأ إليها الإخوان عندما جمعوا عشرات الآلاف من بطاقات الغلابة ليمنعوهم من التصويت.
إن هذا العمى المطبق ليس هو مكمن الخطر فقط فى حديث هؤلاء المثقفين؛ فالأخطر منه هو هذا التعالى المريض على إرادة الشعب، والسخرية المأجورة من وعى الشعب، الذى لم يذهب إلى صناديق الاقتراع ليدلى بصوته حول «وثيقة دستورية» فقط.. ولكنه ذهب ليدافع عن وطن تعرضت وحدته وسلامته وأمن مواطنيه لخطر فادح، ذهب لينتزع بلده من مخالب كافرة كانت على وشك أن تمزقه وتمزقنا معه.. وكانت أهم تجليات الاستفتاء هى إصرار الجموع الحاشدة على ترديد أغانى تمجيد الجيش المصرى العظيم ورفع صور رموز الدولة المصرية «عبدالناصر والسادات والسيسى».
ومع هذا الفهم لاكتساح علامة «نعم» فى هذا الاستفتاء، ليس أمام المثقف الحقيقى، المثقف المنتمى إلى شعبه، المثقف الذى يأكل من عرق جبينه وليس من عرق ضميره، إلا أن يعود للارتماء فى حضن هذا الشعب وأن يتعلم منه قيمة الانتفاض دفاعاً عن الوطن فى لحظات الخطر.. وساعتها سيندهش جداً لأن هناك نسبة ضئيلة من جملة المشاركين فى الاستفتاء قالوا «لا».