يوم 14 يناير 2014، اليوم الذى توجه فيه المصريون بالملايين للاستفتاء على دستور المستقبل، كانت الأسواق الأمريكية تستقبل صفحات عن مرحلة من أخطر مراحل التاريخ المصرى، وأكثرها توتراً وغموضاً، وهى المرحلة الانتقالية التى سبقت وصول الإخوان للحكم.
اقترحنا على المصريين إجراء الانتخابات الرئاسية أولا حتى نضمن وجود رئيس مدنى.. لكن «طنطاوى» اقتنع برأى الخبراء الدستوريين حوله
كان الكتاب يحمل عنوان «الواجب»، وكان المؤلف هو وزير الدفاع الأمريكى الأسبق «روبرت جيتس»، الذى كان شاهداً على فترة حرجة من تاريخ العلاقات المصرية-الأمريكية، ارتبطت فيها أمريكا فى تحالف استراتيجى محكم مع نظام مبارك قبل أن تتركه للسقوط بعد ثورة يناير. والأهم، أنه كان شاهداً على تعامل إدارة «أوباما» مع مصر خلال فترة تجهيزها لمرحلة ما بعد الثورة، الفترة التى انهارت فيها قوى سياسية وصعدت فيها أخرى، وتاهت فيها مصر وسط تكهنات واتهامات بالمؤامرات والصفقات، دون أن يعرف أحد من الذى يحرك، ومن الذى يستفيد.
«روبرت جيتس» كان يسجل مذكراته فى كتاب «الواجب» الذى استقبلته الأسواق الأمريكية باهتمام يتناسب مع ثقل كاتبه، والأسرار التى يحملها عن كواليس خلافات إدارة أوباما حول التعامل مع الملف المصرى، ومن فيها كان يؤيد بقاء مبارك، ومن الذى كان يصر على رحيله، والأهم، كيف كان الجيش المصرى ينظر إلى ثورة يناير ويتعامل معها، وكيف كانت طريقة تفكيره فى إدارة المرحلة الانتقالية، التى قادت فى نهايتها إلى وصول الإخوان للحكم.
طنطاوي يستقبل جيتس
وكما هى العادة فى كتب المذكرات والسير الذاتية، يكتب وزير الدفاع الأمريكى الأسبق مذكراته، ليرسم عن نفسه الصورة التى يريد أن يراه الناس عليها، ولكن.. دون أن تكون تلك الصورة صحيحة بالضرورة. لقد كان من الطبيعى، بل والمتوقع أيضاً، أن يخرج كل المسئولين الأمريكان الذين عاصروا «فشل» إدارة أوباما فى التعامل مع مصر مثل جيتس، ليقولوا، كما يقول وزير الدفاع الأمريكى: لقد حذرتكم جميعاً من ترك الإخوان يصلون للحكم فى مصر. لقد حذرتكم من إجراء انتخابات برلمانية دون أن تكون الأحزاب المدنية مستعدة لدخول ساحة السياسة التى ينفرد بها الإخوان بتنظيمهم وأجنداتهم. لقد طالبتكم بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية حتى تضمنوا وصول رئيس مدنى إلى السلطة فى مصر.
كأنه يحاول تقديم نفسه فى صورة «البطل»، الحكيم الذى كان ينذر إدارة أوباما وربما حتى الإدارة المصرية بسوء العاقبة، وهم لا يسمعون، كأنه كان «القلب الرحيم» الوحيد الذى ينظر بعين الرأفة إلى ثوار يناير، ولا يترك فرصة دون أن يؤكد أهمية الحفاظ على حياة المواطنين المصريين للمشير «حسين طنطاوى»، وزير الدفاع الأسبق، والذى كان حتماً أكثر حرصاً على حياة المصريين منه، مهما كان الجدل حول موقفه السياسى وقتها.
ننشر مذكرات «روبرت جيتس» عن المرحلة الانتقالية وعن الثورة فى مصر كما كتبها صاحبها، بكل محاولاته لتجميل صورته فى أعين من يقرأها، وكل مبالغاته، ورواياته التى وضعها فى قالب الشهادة، ننشرها لنظهر المدى الذى وصل إليه المسئولون السابقون فى إدارة أوباما، هؤلاء الذين صاروا يحاولون «تبرئة» أنفسهم أمام التاريخ من «جريمة» ترك الإخوان يصلون للحكم فى مصر، ويحاولون، ولو بالتأليف والمبالغة، أن يباعدوا بين أنفسهم و«تهمة» دعم الإخوان على حساب الشعب المصرى.
ننشر مذكرات «جيتس» حتى يكون للقارئ وحده حق الحكم عليه، وعن سبب اختياره لهذا التوقيت بالذات لإطلاق مذكراته قبل ذكرى ثورة يناير بأيام، وفى نفس يوم الاستفتاء على الدستور. لكن الأهم، أننا ننشرها حتى يظهر من يوضح لنا ما الذى كان يجرى فى تلك الفترة الغامضة التى وصلت بنا إلى ما نحن فيه الآن، حتى لا يظل المجال مفتوحاً لكل من يريد أو يتآمر، لكى يزيف تاريخنا من يشاء.
يقول روبرت جيتس عن تعامل الإدارة الأمريكية عندما نزل الناس للشوارع فى 25 يناير: «كانت خطوط الاتصال بين واشنطن وعواصم الدول العربية فى الشرق الأوسط تكاد تشتعل فى تلك الفترة. قبلها بأسبوع كانت هناك مظاهرات فى عمان واليمن والأردن والسعودية، وكنت أنا، وجو بايدن نائب الرئيس أوباما، وهيلارى كلينتون وزيرة الخارجية، على اتصال دائم مع نظرائنا فى دول الشرق الأوسط لبحث الأوضاع فى مصر والمنطقة.
تحدثت مع ولى عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وولى عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد الذى كانت آراؤه وأحكامه تحظى بدرجة عالية من احترامى وتقديرى. قال لى «بن زايد» إنه يشعر أنه يتلقى رسائل مختلطة من الولايات المتحدة، وأن ما يسمعه منى أو من جو بايدن نائب الرئيس، ليست هى نفس الرسائل التى يتلقاها من البيت الأبيض أو من وسائل الإعلام. وانتهى إلى القول بأنه: «إذا انهار النظام فى مصر، فستكون هناك نتيجة لا مفر منها، هى أن مصر سوف تصبح نسخة سنية من إيران».
«طنطاوى» وعصام شرف كانا متفائلين بشكل غير واقعى
وأضاف «بن زايد» أن موقف الولايات المتحدة يذكره بأيام الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر وقت سقوط شاه إيران، قائلاً: «إن أوباما يحتاج إلى أن يصيغ رسالته بنبرة مختلفة». ولم يختلف «بن زايد» مع القول إن تحركات مبارك جاءت متأخرة جداً، واتفقنا على التواصل كل بضعة أيام.
ومع تزايد العنف فى القاهرة، اتصلت بالمشير طنطاوى مرة أخرى فى ذلك اليوم، مشدداً على ضرورة أن يكون الانتقال فعلياً وسلمياً وأن يبدأ الآن، وأن يتم إدماج قطاعات واسعة من المعارضة فيه. وعبرت له عن قلقى من أنه لو لم يتم الانتقال بشكل سريع فإن المظاهرات سوف تستمر، وقد يواجهون أزمة فى المواد الغذائية، وستزداد الأوضاع الاقتصادية سوءًا، وستتصاعد مشاعر الغضب لدى الشعب المصرى، وهو ما يمكن أن يقود إلى أن يخرج الموقف كله عن السيطرة.
وقال لى «طنطاوى» إن المتظاهرين المؤيدين لمبارك توجهوا لميدان التحرير لإظهار دعمهم لرئيس مصر الذى ظل يحكمها لوقت طويل، ونتيجة لذلك وقعت بعض الاشتباكات بين مؤيدى ومعارضى مبارك، مضيفاً: «لكننا نبذل ما فى وسعنا للقضاء عليها قريباً».. وقدمت له التحية من جانبى على تعامل الجيش حتى اللحظة مع المظاهرات، وطالبته باستمرار ضبط النفس.
وعلى النقيض من رسائل طنطاوى المطمئنة، تصاعد العنف فى ذلك اليوم، بعد أن اقتحم أنصار مبارك ميدان التحرير بالخيول والجمال والعصى والسيوف. وفى اليوم التالى، أطلق قناصة النار على المتظاهرين ليسقط منهم كما قيل ما يقرب من 10 أشخاص، وإصابة أكثر من 800. وكانت مصادر معلوماتنا، التى نعترف بأنها كانت شحيحة للغاية، تلمح إلى أن هذه الهجمات تم السماح بها وتشجيعها وربما تنفيذها بواسطة رجال شرطة من المؤيدين لمبارك فى قلب وزارة الداخلية.
واتصلت بـ«طنطاوى» للمرة الرابعة. وفيما اعتبرته خطوة شجاعة منه، كان وزير الدفاع المصرى الأسبق قد قرر أن يتجه إلى ميدان التحرير فى ذلك الصباح وسار فيه على قدميه لطمأنة المتظاهرين بأن الجيش سوف يقوم بحمايتهم. وتم استقباله فى الميدان استقبالاً جيداً، ولذلك كانت معنوياته مرتفعة للغاية عندما اتصلت به. وركز على التأكيد بأنه لم يعد هناك مزيد من العنف. فسألته عن التقارير التى تلمح بأن قوات وزارة الداخلية قد فقدت السيطرة وشنت هجوماً على المواطنين المصريين. ورد علىَّ «طنطاوى» بكل حذر قائلاً: «إذا كانت تلك الاتهامات صحيحة، فهى لم تعد مشكلة قائمة بعد الآن».
لقد شعرنا جميعاً بالقلق أمام تصاعد الغضب والغليان الشعبى للشارع فى مصر. وطلب منى «طوم دونيلون» بعدها بيوم أن أتصل بالمشير طنطاوى لكى نحاول أن نفهم منه ما الذى يجرى.
حذرنا من أن وصول الإخوان لموقع قيادى سيهز المنطقة
كان الوقت متأخراً جداً ساعتها فى مصر، لكن طنطاوى استقبل اتصالى. قلت له إنه من غير الواضح بالنسبة لنا ما إذا كان عمر سليمان يتمتع بكل صلاحيات الرئيس، ورد طنطاوى: «إن عمر سليمان سيتولى كل مهامه التنفيذية كرئيس للبلاد»..
سألته بعدها عن وضع مبارك، وما إذا كان موجوداً فى القاهرة، وقال المشير طنطاوى، إنه تم اتخاذ الإجراءات اللازمة لرحيل مبارك من القصر الرئاسى، وإن هناك احتمالاً بأنه سيغادر إلى شرم الشيخ». وطمأننى «طنطاوى» من جديد أن الجيش سوف يحمى الشعب، ومن جانبى أنا، شددت مجدداً على ضرورة أن تضع الحكومة التزاماتها بالإصلاح موضع التطبيق.
وفى الساعة السادسة من مساء يوم 11 فبراير، أعلن عمر سليمان استقالة مبارك، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سوف يتولى زمام الأمور فى البلاد. وفى اليوم التالى، تعهد المجلس العسكرى بتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة، وأكد على احترام مصر لكافة المعاهدات والمواثيق الدولية التى وقعت عليها، وهى إشارة مبطنة لإسرائيل بالتزام الحكومة الجديدة فى مصر بمعاهدة السلام الموقعة معها. وفى 13 فبراير حل المجلس العسكرى البرلمان، وعلق العمل بالدستور، معلناً أنه سيستمر فى السلطة لستة أشهر تالية أو حتى يتم إجراء الانتخابات، أيهما أقرب.
وبعدها بستة أسابيع وصلت إلى القاهرة للقاء رئيس الوزراء وقتها عصام شرف، والتقيت معه بالمشير طنطاوى، وشعرت أن كلاً منهما متفائل بشكل غير واقعى. وسألت عصام شرف، كيف سيمنحون الجماعات المختلفة التى تسعى للوصول للسلطة فرصة لتنظيم أنفسهم والحصول على الخبرة الكافية لإدارة حملات انتخابية مقبولة. وواصلت قائلاً: إن أى دور قيادى لجماعة الإخوان سيثير اضطرابات عنيفة فى المنطقة، وسيتسبب فى إبعاد الاستثمارات الأجنبية.
ورد المشير طنطاوى الذى كان حاضراً فى الاجتماع: «نحن لا نعتقد أن الإخوان بهذه القوة، لكنهم إحدى جماعتين شديدتى التنظيم فى مصر، الجماعة الثانية هى جماعة الحزب الوطنى، والناس بحاجة لبعض الوقت حتى يصبحوا قادرين على تنظيم أنفسهم كحزب، وإعلان مواقفهم».
الوطن تنفرد بنشر أخطر فصول مذكرات وزير الدفاع الأمريكي عن أسرار المرحلة الانتقالية
وبعدها بيوم، قال لى المشير طنطاوى إنه لا الإخوان ولا غيرهم ستكون له اليد العليا، مضيفاً: «الشعب المصرى هو من ستكون له اليد العليا فى كل شىء. ومن جانبنا سندعمه».. ومن جديد سألت عما إذا كان أمام قادة الثورة الوقت والمجال لتنظيم أنفسهم فى أحزاب سياسية قادرة على المنافسة فى الانتخابات، ورد طنطاوى: «سوف نمنحهم وقتاً (معقولاً) لتنظيم أنفسهم سياسياً»، لكنه أضاف أنه كلما ازداد الوقت الذى تستغرقه الحكومة لإجراء الانتخابات، زاد الأمر سوءًا بالنسبة للاقتصاد المصرى.
وقال لى «طنطاوى» إن السياحة، وهى مصدر دخل الاقتصاد المصرى الرئيسى من العملة الصعبة، قد تدهورت منذ يناير بأكثر من 75%.
قلت له إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنه من الأفضل انتخاب رئيس أولاً قبل البرلمان، كنوع من ضمان وتأمين وجود قيادة مدنية على رأس البلاد، وهو ما يمكن أن يسمح بالتالى بشراء مزيد من الوقت يسمح للقوى البديلة للإخوان بالظهور، ورد «طنطاوى» بأنهم كانوا يستشيرون عدداً من الخبراء الدستوريين الذين نصحوهم بإجراء الانتخابات البرلمانية أولاً.
وعندما سألته عن العناصر الخارجة والمنحرفة فى وزارة الداخلية، وعن المتطرفين الذين يظهرون لإثارة المشاكل، قال لى «طنطاوى» مطمئناً: «لا توجد هناك مشكلات فعلية»، والواقع أن ثقته، كما أثبتت الأحداث اللاحقة، لم يكن لها ما يبررها.
فى المقابل، بدا أن هناك ما يبرر قلق ولى العهد الإماراتى الشيخ محمد بن زايد حول وصول الإسلاميين للسلطة فى مصر، ففى الانتخابات البرلمانية، فاز الإخوان ومعهم الأحزاب السلفية المتشددة، بأكثرية المقاعد فى مجلس الشعب الجديد ليشكلا معاً ما يقرب من ثلاثة أرباعه. وعلى الرغم من أنهم وعدوا بعدم خوض الانتخابات الرئاسية فإنهم تراجعوا وقرروا ترشيح محمد مرسى الذى فاز بالانتخابات الرئاسية فى 2012، وبعدها بفترة قصيرة «أقال» مرسى المشير طنطاوى ليتولى ظاهرياً السيطرة على الجيش.
وفى خريف 2012، قام مرسى بتحصين قراراته الرئاسية من الطعن عليها أمام القضاء، وهى الخطوة التى شكلت تراجعاً نحو السلطوية، إلا أن تفجر السخط الشعبى ضده أجبره على التراجع، جزئياً، وقتها على الأقل. وأقر الدستور الجديد الذى أقرته لجنة تأسيسية يسيطر عليها التيار الإسلامى، دور الشريعة الإسلامية كمبدأ، لكن لم يكن واضحاً إلى أى مدى سوف يكون التطبيق.